مرعيد بن عبدالله الشمري
فإن العلاقة بين العقيدة والعبادة علاقة تلازمية؛ فلا عقيدة بدون عبادة، ولا عبادة بدون عقيدة، وهذه العلاقة شأنها شأن علاقة الروح بالجسد؛ إذ لايمكن أن يكون هناك جسد بدون روح، ولا يمكن أن تكون هناك روح بلا جسد؛ فالعلاقة بين الصيام والعقيدة هي علاقة تلازم وتضمن.
وعند التأمل في الصيام ونصوصه مثلاً؛ يتبين بجلاء مدى هذه العلاقة، وأن عبادة الصيام تحتوي على الكثير من المسائل العقدية ومنها:
المسألة الأولى : أن الإخلاص من أعظم آثار الصيام، فهو ثمرة ينالها المسلم من صومه؛ لأن الصيام عمل خفي بين العبد وبين ربه، فهو يربي في المؤمن توحيد الله وإخلاص العمل له سبحانه وحده لا شريك له، لقول الله عز وجل في الحديث القدسي : (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي) رواه البخاري ومسلم.
المسألة الثانية : الارتباط الوثيق بين الصيام وبين الدعاء؛ فآية ((وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان)) البقرة 186 قد جاءت بين آيات الصيام؛ لتدل على هذا الارتباط، فالصيام مظنّة لإجابة الدعاء، فالأدلة قد جاءت بفضل الدعاء حال الصيام وأن المؤمن تُرجى إجابة دعوته فيه إذا اجتمعت الشروط، وانتفت الموانع ففي الحديث (للصائم عند فطره دعوة لا تُرد) أخرجه الحاكم ، فحال المؤمن وهو صائم حَريّة بالإجابة؛ لأنه قريب من ربه بسبب انكسار نفسه وتعبه وضعفه.
المسألة الثالثة : إثبات الشفاعة يوم القيامة، وأن الصيام من ضمن الشافعين، وقد خصّه الله بالشفاعة؛ لعظم شأنه وكبير فضله، فجعله الله بإذنه شافعاً للمؤمن يوم القيامة، فقد جاء في الحديث : (أن الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة) رواه أحمد.
المسألة الرابعة : إثبات صفة العلو لله تعالى، وأنها من الصفات الذاتية التي لا تنفك عنه سبحانه، وقد جاء إنزال القرآن من الله في شهر الصيام دليلاً على هذه الصفة؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من علو، ومن علو منزلة الصيام عند الله أنه أنزل فيه القرآن من فوق سبع سماوات؛ ليبيّن فضله وأهميته يقول تعالى ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)) البقرة 185.
المسألة الخامسة : إثبات صفة العفو لله على ما يليق به جل وعلا، وشرع الله الصيام؛ ليظهر هذه الصفة لعباده الصائمين، وأنه سبحانه يعفو عن مسيئهم، ويتجاوز عن مخطئهم، ولذلك جاء في الحديث استحباب الدعاء بطلب العفو من الله في ليلة القدر في رمضان بقول (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنّي) أخرجه الترمذي.
المسألة السادسة: إثبات صفة المحبة لله تعالى، فهو سبحانه وتعالى يحب ما شاء من مخلوقاته محبةً تليق به، ويحب الأعمال الصالحة ومنها الصيام؛ لأنه فرضٌ افترضه الله على عباده، ففي الحديث القدسي يقول تعالى (وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه) رواه البخاري ، وكذلك حبه لصيام داود عليه السلام، كما في حديث (أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) متفق عليه ، فهو يحب الصوم فرضه ونفله.
المسألة السابعة : إثبات صفة الإرادة لله جل وعلا، وأنه سبحانه كما له إرادة ومشيئة تليق به جل وعلا، أيضاً للعبد إرادة تليق به لا تماثل إرادة الخالق سبحانه، والصيام ينمّي في المسلم هذه الإرادة؛ لفعل الخير، واجتناب الشر من خلال الإمساك عن الشهوات طاعة لله.
المسألة الثامنة: إثبات صفتي الطيب والاستطابة لله تعالى، (فالله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيّبا) رواه مسلم، ويستطيب الأشياء استطابة تليق به لا تماثل استطابة المخلوقين، ففي الحديث (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) رواه البخاري ومسلم ، فإذا كان هذا الطِيب في أثر من آثار الصيام التي تظهر على الصائم؛ فما ظنك في الصيام نفسه؟!
فالطيبات كلها لله تعالى ومضافة إليه وصادرة عنه ومنتهية إليه.
المسألة التاسعة: إثبات صفة القرب لله تعالى على ما يليق به، فالله سبحانه قد ذكر هذه الصفة بين آيات الصيام؛ ليبيّن أن الصائم قريب من الله، ودعاءه قريب الإجابة قال تعالى ((وإذا سألك عبادي عني فإني قريب)) البقرة 186.
المسألة العاشرة: الإيمان بالملائكة وأنه أحد أركان الإيمان، وقد دلّت الأدلة على وجودهم، ومن هذه الأدلة نزولهم في ليلة القدر، وهي من ليالي الصيام، فلم تنزل الملائكة بهذه الكثرة والمدة والدوام إلا في هذه الليلة؛ فدل على مزيّة الصيام وبركته وفضله يقول تعالى عن ليلة القدر ((تنزّل الملائكة والروح فيها)) القدر 4 .
المسألة الحادية عشرة : الإيمان بالكتب، وأنها منزّلة من عند الله غير مخلوقة، وأن الإيمان بها ركن من أركان الإيمان، فالله قد اختص شهر الصوم بإنزال أفضل كتاب على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليدل على فضيلة الصوم، وأن الله قد اختص وقته بهذه الفضيلة العظيمة، يقول تعالى ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)) البقرة 185.
المسألة الثانية عشرة : الإيمان بالرسل، وأنه أحد أركان الإيمان، فالإيمان بالكتب يلزم منه الإيمان بالرسل؛ لأنهم هم الذين جاءوا بها من عند الله، ومعلومٌ أن القرآن أنزله الله على نبينا صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان.
المسألة الثالثة عشرة : الإيمان باليوم الآخر، وأنه أحد أركان الإيمان الذي لايقوم إلا به، وجاء الصيام؛ ليدل على هذا الركن من خلال تشبيه فرحة الصائم بفطره بفرحة المؤمن بلقاء ربه يوم القيامة، فقد جاء في الحديث (للصائم فرحتان ، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه) رواه البخاري ومسلم.
المسألة الرابعة عشرة : الإيمان بوجود الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان الآن، ففي الحديث (إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النار، وصُفدت الشياطين) رواه مسلم، ففتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار في شهر الصيام دليلٌ على وجودهما، ودليلٌ عَلَى بَرَكَةِ هذا الشَّهْرِ ، وَمَا يُرْجَى لِلْعَامِلِ فِيهِ مِنْ الْخَيْر، وأن الصائم قريب من الجنة، بعيد عن النارِ.
المسألة الخامسة عشرة : الإيمان بالقضاء والقدر، وأنه ركن من أركان الإيمان، وأن من رضي به ، وعلم أن الأمر كله بيد الله وتقديره؛ قاده ذلك إلى الصبر على أقدار الله وأمره، ومنها الصيام الذي فيه المشقة والتعب.
قال تعالى ((إنا أنزلناه في ليلة القدر)) القدر1 وليلة القدر من ليالي الصيام سُمّيت بذلك؛ لأنه يُقدّر فيها ما يكون في العام من الآجال والأرزاق والمقادير القدرية.
المسألة السادسة عشرة: الإيمان بوجود الجن، وأن منهم من يجري من ابن آدم مجرى الدم لإغوائهم، والصيام يضيّق هذه المجاري عليه؛ فلا يقوى على الصائم، ومنهم من يُصفّد عند دخول شهر الصيام، ففي الحديث (إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة ، وغُلقت أبواب النار وصُفدت الشياطين) رواه مسلم ، والشياطين هم مردة الجن وفسّاقهم، فالصوم هو من حصون المسلم التي تحميه بعد الله من كيد فسّاق الجن.
المسألة السابعة عشرة: الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة التي دلّت عليها النصوص الصحيحة، والصيام هو أحد أسباب زيادة الإيمان، يقول تعالى ((ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر)) القدر 3 وهذا دليل على تفاضل الأعمال، وأن ليلة القدر من الأعمال التي يرتفع بها الرصيد الإيماني لدى المسلم؛ فالإيمان ليس على مرتبة واحدة يتساوى فيها الناس، بل يتفاضل.
المسألة الثامنة عشرة: الأعمال الصالحة أحد أسباب مغفرة الذنوب، والصيام من أهم الأعمال الصالحة التي يغفر الله بها الذنوب، ويتجاوز به عنها، فقد جاء في الحديث أن (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.
المسألة التاسعة عشرة : أهل السنة والجماعة وسط في فرق البدع، كما أن الإسلام وسط بين أمم الكفر، والصيام الذي شرعه الله جاء ليؤكد هذه الحقيقة، وأنه وسط بين الإفراط والتفريط، فالله سبحانه شرع الصيام جزءاً من اليوم وليس كله، وبعضاً من السَنَة وليس كلها، فقد جاء في الحديث النهي عن الوصال في الصيام والسرد فيه. رواه البخاري ومسلم .
فالصيام الذي شرعه الله حسنةٌ بين سيئتين، وحقٌ بين باطلين.
المسألة العشرون : البدعة في حقيقتها طعن في الدين؛ لأنه يلزم من ذلك أنه ناقص يحتاج إلى زيادةٍ فيه، والصيام جاء أنموذجاً واضحاً في أن الصيام عبادة ليست بدعاً من العبادات، بل لنا أسوة بمن قبلنا من الأمم في صيامه حتى ننشط في أدائه، قال تعالى ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)) البقرة 183.
المسألة الحادية والعشرون : هناك بعض البدع التي انتشرت في المجتمعات الإسلامية ولا يعلم الكثير أنها من البدع، مثل ضرب المدفع عند الإفطار، وبدعتي التسحير والقرقيعان، وصيام النصف من شهر رجب، والنصف من شهر شعبان، وزيادة الإنارة في رمضان، والحزن وتناقل رسائل العزاء في وداع رمضان بخطب الجمعة أو في وسائل التواصل، فيجب الحذر والتحذير من ذلك.
المسألة الثانية والعشرون : شرع من قبلنا هو شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، والصيام جاء مثالاً واضحاً على هذه المسألة، فهو من العبادات المتفق عليها بين الأنبياء في الأصل وإن كانت تختلف من جهة التفصيل، قال تعالى ((يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم)) البقرة 183 .
المسألة الثالثة والعشرون : ثبت أن لبعض الأزمان والأعيان بركة، ومن هذه الأزمان المباركة شهر رمضان ومنه ليلة القدر، قال تعالى ((إنا أنزلناه في ليلة مباركة)) الدخان 3، ومن الأعيان المباركة أكلة السَحَر في الصيام، فقد جاء في الحديث (تسحروا فإن في السحور بركة) رواه البخاري ومسلم .
المسألة الرابعة والعشرون : مخالفة الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، أمرٌ مقصودٌ للشارع ، فالصيام وإن كان شرع من قبلنا إلا أن الشارع جعل لأمة الإسلام أكلة السحور؛ لتكون فارقةً بين صيام أهل الإسلام وصيام غيرهم من الأمم، فجاء في الحديث (فصْلُ مابين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكْلة السَحَر) رواه مسلم .
وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
إرسال تعليق