0
الحمد لله منزل القرآن خالق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على المبعوث للإنس والجان، وبعد:
بتفكير وتأنٍ دعونا نقرأ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
الكلام في هذه الآيات بصيغة الضمير الغائب " هو " رب العالمين، ولكن في الآيات التي بعدها:   
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)  الفاتحة: ١ - ٧
  الضمير فيه ضمير المخاطب " إياك " " أنت " ، فلماذا تغير الضمير؟، وبعبارة أخرى: ما الأسرار في العدول عن ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب؟ نحن متفقون أننا لا نستطيع الإحاطة بكل الأسرار، لكنا مطالبون بالبحث والدراسة؛ لاكتشاف بعض أسرار القرآن، ولنعد إلى سؤالنا: ما سر تغيير الضمير؟
ولإتمام الصورة في هذه السورة، نستعرض حديث المصطفى- صلى الله عليه وسلم- حيث قال:  قالَ اللهُ تعالى: قسمتُ الصَّلاةَ بيني وبينَ عبدي نصفينِ، ولعبدي ما سألَ ،فإذا قالَ العبدُ:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }، قالَ اللهُ تعالى: حمدني عبدي، وإذا قالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } . قالَ اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قالَ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } . قالَ : مجَّدني عبدي ( وقالَ مرَّةً: فوَّضَ إليَّ عبدي ) فإذا قالَ : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . قالَ: هذا بيني وبينَ عبدي ولعبدي ما سألَ. فإذا قالَ: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . قالَ: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.[1].
وأظنك أدركت أحد الأسرار، وهو الاستحضار، وهو استحضار صورة الأمر؛ ليكون أقرب للنفس، وأكثر تأثيرا، وأشد تجاوبا مع النص. وكأني بالعبد وهو يقرأ سورة الفاتحة يستحضر رب العالمين أمامه وهو يتجاوب معه، فيبدأ بالحمد والتمجيد والثناء، وهذا يناسبه ضمير "هو " ، وحين يصل العبد إلى المطلوب منه يخاطب ربه قائلاً: لا أعبد غيرك، ولا أستعين بغيرك فيناسبه " أنت ".
إذن فأحد الأسرار هو قوة الاستحضار لتحقيق الهدف من النص.
اقرأ معي:
     " وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ" (9) فاطر: ٩
يبين الله شيئاً من قدرته، واستخدامه كأحد الأدلة على إمكانية إعادة الموتى- وهو النشور-، وعند تأملك في النص تجد أن النص القرآني بدأ بالفعل الماضي " أرسل "، لكنه بعد الإرسال يكمل العرض بالفعل المضارع " فتثير " ، والأصل الاستمرار بصيغة فعلية واحدة؛ فلماذا استخدم المضارع ولم يستمر بصيغة الماضي؟
لعل من الأسرار - والله أعلم - الاستحضار؛ فالتعبير بالفعل المضارع يجعل القارئ المتدبر يستحضر الصورة، فالله يريد استحضار صورة بديعة للسحاب وهو يتراكب ويتجمع ويتراكم، ثم كيف تثيره الرياح ليدلل على قدرته، فاستخدام الفعل المضارع هنا جعلك كأنك تنظر إلى السحاب بالكيفية التي ذكرناها.
واستعمال الفعل المضارع للاستحضار كان معروفاً لدى العرب سابقاً، كما أننا نستخدم الفعل  المضارع لاستحضار الموقف والصورة، فمثلا حين تروي قصة حدثت لك تقول " خرجنا إلى المزرعة، وبينما نحن نسير في الطريق خرج علينا أحدهم وهو مسرع في قيادته ....." فبدأنا بالماضي " خرجنا " ثم عمدنا إلى المضارع من أجل استحضار الصورة، وشد انتباه المستمعين.
ومن طرق الاستحضار في القرآن - وهي الطريقة الثالثة-  استخدام المصطلحات لتكون أقوى في التعبير، وأكثر في التأثير، وأبلغ في إيصال الرسالة ، فلنتدبر هذه الآيات:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)فاطر.
إنها تحكي صورة من عذاب الكفار في جهنم، ذلك العذاب الذي لا مثيل له، والهدف هو التحذير من سلوك الطريق الموصل لهذا المصير، فمن هنا لابد أن تكون الصورة مفزعة جسدياً ونفسياً وبجميع المقاييس، ولكي تكون الصورة حاضرة ومحركة، وليست جامدة، استخدم القرآن الكريم كلمة " يصطرخون " ، كلمة ذات عدة دلائل: فهي تشير إلى شدة الصراخ وارتفاع الصوت بشدة مع الألم[2] لطلب الغوث والنجاة، كما تشير إلى الحركة والاضطراب؛ فهي تصور لك الكفار وهم يتحركون باضطراب، ويتألمون ويرفعون أصواتهم بالغوث طالبين النجاة أو العودة إلى الحياة، حتى وأنت تقرأ هذه الكلمة تشعرك بذلك؛ فهي تساهم بدور كبير في استحضار الصورة المُنفّرة لهذا المصير، ومهما حاولت أن تأتي بكلمة تحاكي هذا الواقع، وترسم صورته للمتلقي والمتدبر لن تجد أفضل من "يصطرخون " لما تحدث بالنفس، ولما ترسم في الذهن.
وهكذا نرى القرآن الكريم يستخدم هذا الفن البديع " فن الاستحضار " بعدة طرق يجمع فيها بين الكلمات، والجمل، والتراكيب؛ لتشكل معا نسيجاً يرسم لوحة جميلة ومبدعة للقضية المطروحة وصولاً إلى الهدف المنشود بأقصر عبارة، وأحلى كلمات وأجملها.
اسأل الله أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا، وأن يرزقنا تلاوته وتدبره آناء الليل وأثناء النهار على الوجه الذي يُرضيه عنا.
والله أعلم  

إرسال تعليق

 
Top