محمد رفيق مؤمن الشوبكي
إن
من أَجَلِّ العبادات وأعظمها (عبادة الاعتكاف)؛ إذ بها يحيا القلب، وتزكو
النفس، ويخلو العبد بالله تبارك تعالى، ويصرف قلبه وجوارحه إلى عبادة الله
عز وجل. ونذكر في هذا المقال الشرعي شيئاً من أحكام الاعتكاف وآدابه:
أولاً: أهم أحكام الاعتكاف:
1- الاعتكاف هو المكث في المسجد بنية التقرب إلى الله تعالى في أي وقت من ليل أو نهار.
2-
الاعتكاف سنة، وهو من العبادات التي واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم
حتى مات، فعنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْج النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى
تَوَفَّاهُ اللَّهُ " (رواه البخاري ومسلم).
وقال
الإمام الزهري رحمه الله: " عجبا للناس تركوا الاعتكاف وقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يفعل الشيء ويتركه، ولم يترك الاعتكاف منذ دخل المدينة
إلى أن مات ".
3-
يبدأ الاعتكاف -لمن نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان كاملة- قبل غروب
شمس يوم العشرين من رمضان، وينتهي بغروب شمس آخر يوم من رمضان، واستحب كثير
من العلماء أن يكون خروج المعتكِف من المسجد عند خروجه إلى صلاة العيد.
4-
يجوز للمسلم أن يعتكف في المسجد في أي وقت من ليل أو نهار، فأقل الاعتكاف
لحظة على قول أكثر العلماء، ولكن ليحرص المسلم أن يعتكف اعتكافاً كاملاً
اتباعاً لهدي النبي إن استطاع، فإن لم يستطع، يعتكف في الأوقات التي
يستطيع من ليل أو نهار، وليجتهد في الاعتكاف في الليل أو في جزء منه على
الأقل، تحرياً لليلة القدر وطمعا في ثوابها.
5-
ليلة القدر غير محددة في ليلة معينة، فهي في العشر الأواخر من رمضان، وثبت
عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنه قال: " تَحرُّوا لَيلةَ القَدْرِ في
الوَتْر من العَشرِ الأواخِرِ من رمضانَ " (رواه البخاري ومسلم). يعني:
(ليلة الواحد والعشرين، والثالث والعشرين، والخامس والعشرين، والسابع
والعشرين، والتاسع والعشرين).
6- إذا قام المسلم ليالي العشر الأواخر من رمضان في بيته فلا يعد معتكفاً؛ لأن من شروط الاعتكاف أن يكون في مسجد، بإجماع أهل العلم.
7- إذا كان المعتكِف يعتكف العشر الأواخر من رمضان كاملة، فيبطل اعتكافه بعدة أمور، أشهرها:
أ- الخروج من المسجد بجميع بدنه بدون حاجة، أما إذا خرج لحاجة لابد منها فلا بأس في ذلك.
ب- الجماع وإخراج المني عمداً، أما إذا نام فاحتلم فلا يبطل الاعتكاف، وعليه أن يغتسل على الفور.
ت- الردة، ومن ذلك سب الذات الإلهية أو الدين أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو التلفظ بأي من نواقض الإيمان، والعياذ بالله تعالى.
فائدة:
إذا اعتكفت المرأة في المسجد فنزل عليها دم الحيض أو النفاس يحرم عليها
المكث في المسجد، فينقطع بذلك اعتكافها مؤقتاً، ولا يبطل، فإذا طهرت ترجع
إلى المسجد الذي كانت تعتكف فيه، وتبني على ما مضى من اعتكافها.
وكذلك إذا طرأ على المعتكِف ما يخرجه عن إدراكه كإغماء مثلاً ينقطع اعتكافه ولا يبطل، فإن أفاق أكمل اعتكافه، وبنى عليه.
ثانياً: آداب الاعتكاف:
1-
ينبغي على المعتكِف أن يخلص نيته لله تبارك وتعالى، فالعمل بدون إخلاص
هباءً منثوراً؛ لا ينفع صاحبه عند الله تعالى، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه، أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلا مَا
كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ " (رواه النسائي والطبراني
وقال عنه الألباني: حسن صحيح).
فإن
يكن المعتكِف مخلصاً لله، محتسباً الأجر والثواب منه سبحانه وتعالى، كان
ممن قال النبي فيهم: "رُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ"
(رواه أحمد وصححه الألباني). وفي رواية أخرى: "رُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ
مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ" (رواه ابن ماجه والنسائي وصححه
الألباني). نسأل الله العافية.
2-
ينبغي على المعتكِف أن يجتهد في قيام ليالي العشر الأواخر من رمضان، فعنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " (رواه البخاري ومسلم).
كما
أن في هذا الأيام ليلة القدر، قال تعالى: " لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ
مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ " (سورة القدر:3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر
له ما تقدم من ذنبه " (رواه البخاري ومسلم).
فيجدر بالمعتكِف أن يشتغل بما لأجله شرع الاعتكاف من الطاعات والقربات والصلاة والذكر والدعاء والاستغفار وقراءة القرآن الكريم.
بل
إن بعض المالكية والحنابلة كرهوا للمعتكِف الاشتغال بتدريس العلم
والمناظرة، وكتابة الحديث، ومجالسة العلماء ونحو ذلك، فهذه العبادات بالرغم
من درجتها العالية، إلا أن الأفضل في الاعتكاف الانشغال بالصلاة والذكر
والاستغفار والدعاء وتلاوة القرآن والتفكر بالله تعالى والخلوة به.
3-
أن يجتنب المعتكِف ما لا يعنيه من الأقوال والأعمال، فعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "
مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ " (رواه ابن
ماجه والترمذي وصححه الألباني).
وكذلك
على المعتكِف أن يبتعد عن كثرة الكلام بدون فائدة، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ "
(رواه البخاري ومسلم). وقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: "
مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ قَلَّ
حَيَاؤُهُ، وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ
مَاتَ قَلْبُهُ ".
4-
أن يجتنب المعتكِف المعاصي والذنوب والآثام، وأن يبتعد عن المراء والجدال
وفحش الكلام والغيبة والنميمة، وأن يتوب لله تعالى توبة نصوحاً، فإن وقع
المعتكِف في الغيبة والنميمة ونحوهما، أثم ونقص أجره على قول جمهور
العلماء، وأفتى المالكية ببطلان اعتكافه.
5-
أن لا يتخذ المعتكِف اعتكافه في المسجد فرصة للقاء أصحابه والاجتماع بهم،
والتحدث عن الدنيا حتى ولو في المباحات، فإن غاية الاعتكاف الخلوة بالله عز
وجل، وترك الانشغال بالدنيا والتفرغ لعبادة الله تعالى.
6-
أن يجتنب المعتكِف المبالغة في استعمال الهاتف المحمول (الجوال) لغير
حاجة، فبعض المعتكِفين يضيع أوقاتا كثيرة، وهاتفه المحمول في يده؛ يستخدمه
لغير فائدة، ويلهو به، وهذا يتنافى مع غاية الاعتكاف.
7-
أن لا يضيع المعتكِف أوقاته في النوم الزائد عن القدر المطلوب، فإن
المعتكِف لم يترك بيته وأهله وربما أولاده لينام في المسجد، وإنما جاء
ليتفرغ لعبادة الله عز وجل.
8-
أن لا يبالغ المعتكِف في ترتيبات الطعام والشراب في اعتكافه، وأن يزهد في
ذلك؛ لأن الاعتكاف لم يشرع لذلك، وبعض المعتكِفين ربما يكون همه ماذا سيأكل
ويشرب في الفطور والسحور أكثر من الاشتغال بالطاعات؟!
9- أن يحافظ المعتكِف على نظافة المسجد، فربما ترك بعض المعتكِفين مخلفاتهم دون تنظيف، وهذا غير جائز.
10-
أن لا يفرط المعتكِف في حقوق أهله وأولاده، فإن بعض الناس يمكث في معتكفه،
وربما يترك أهله وأولاده بدون إعطائهم حقوقهم من المأكل والمشرب ونحوه،
وهذا غير جائز.
وخلاصة
القول: إن الاعتكاف فرصة عظيمة؛ لتربية النفس، وإصلاح القلب، والبعد عن
الدنيا وشهواتها وانشغالاتها، والخلوة بالله تبارك وتعالى، والإكثار من
الطاعات والأعمال الصالحة، والتوبة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى، وتحري
ليلة القدر طمعاً في ثوابها العظيم. فليعرف كل مسلم غاية عبادة الاعتكاف،
وليلزمها حتى نكون من المقبولين عند رب العالمين.
ختاماً أسأل الله تعالى أن يتقبل منا صيامنا وقيامنا وصلاتنا ودعاءنا وصالح أعمالنا، وأن يكتب لنا أجر ليلة القدر، اللهم آمين.
إرسال تعليق