ماذا بعد الإساءة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟
اللقاء الثاني
( رحمته - صلى الله عليه وسلم - بغير المسلمين)
الخطبة الأولى
اهتزت أركان العالم الإسلامي بسبب ما
أحدثه الشريط المسيء للرسول - صلى الله عليه وسلم - من إثارة لحفيظة
المسلمين، الذين عرفوا - عبر التاريخ - باحترامهم الشديد لجميع أنبياء
الله، حيث يعتبرون ذلك من أسس الدين الإسلامي، بل ركنا ركينا لا يستقيم
إيمان المسلم إلا به، لقول الله تعالى:﴿ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
﴾ [البقرة: 285]. وقوله - صلى الله عليه وسلم - في بيان معنى
الإيمان:"أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ،
وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ
وَشَرِّهِ" مسلم.
فلماذا هذا الحقد الدفين تجاه خير البرية - صلى الله عليه وسلم -؟ ولماذا
هذه العداوة المتأصلة في نفوس بعض الغربيين، الذين يتلذذون بإلهاب مشاعر
المسلمين عن طريق سب نبيهم، ورميه بأنواع الاتهامات الظالمة، والأوصاف
القبيحة، وتشويه صورته برسومات شائنة، وأفلام عادية قاطعة؟.
فهل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بدأهم بالعداوة، وناصبهم الكراهية؟.
فإن كانت لهم قلوب يفقهون بها، وآذان يسمعون بها، وعقول يدركون بها،
فليقفوا معنا عند هذه المحطات التاريخية المشرقة، التي لم تكن فلتة، أو
استثناء، وإنما كانت خلقا متأصلا في ديننا، لا يتغير ولا يبلى.
•
ألم يعتد أهل الطائف - وهم كفار مشركون - على رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، فسخروا أطفالهم في سبه وشتمه، ورميه بالحجارة حتى أدموا قدميه
الشريفتين، وكان أشد يوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد يوم أحد
- كما ثبت في صحيح البخاري -. فلما خيره مَلَكُ الجبال أن يطبق عليهم
الأخشبين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:"بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ
اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ
بِهِ شَيْئًا" متفق عليه؟. فهل تقابل هذه الرحمة المهداة للبشرية بالانتقام، والتشويه، والبهتان، غيظا، وحقدا، وحنقا؟.
• ألم يمرض غلام يهودي كان يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعاده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقعد عند رأسه، فقال له:"أسلم". فنظر الغلام إلى أبيه وهو عنده، فقال له أبوه:"أطع أبا القاسم"،
فأسلم، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "الحمد لله الذي
أنقذه من النار" البخاري؟. واستنتج العلماء من ذلك جواز عيادة مرضى غير
المسلمين، إذا كانت تأليفاً لقلوبهم، وطمعا في إسلامهم، وتقريبا لدين الله
إلى نفوسهم.
وبمثل هذه الضوابط استنتجوا جواز تعزيتهم إذا مات لهم قريب. قال الحسن:"إذا عزيت الذمي فقل: لا يصيبك إلا خير"، وكأنها دعوة له بالهداية. وعزَّى الأجلحُ نصرانيا فقال:"عليك بتقوى الله والصبر".
واستنتجوا - أيضا -
أن الجار غير المسلمين يستوجب حق الاحترام والتوقير، لأنه داخل في عموم
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم
جاره" متفق عليه. قال بعض أهل العلم:"إن الجار إذا كان مسلما، فله حقان: حق
الجوار، وحق الإسلام. وإن كان قريبا، فله ثلاثة: حق الجوار، وحق الإسلام،
وحق القرابة. وإن كان كافرا، فله حق واحد: حق الجوار".
نبي يبغي الخير لأبناء اليهود والنصارى، ويرغب في إعتاقهم من النار، ويبيح زيارتهم، وتعزيتهم، وحسن جوارهم، يقابَل بهذه الإساءة المهينة؟.
•
أما علموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بحسن معاملة المعاهَدين
والذميين، وجعل لهم حقوقا تحفظ أشخاصهم، وأهلهم، وأموالهم، ونهى عن
ازدرائهم واستنقاصهم، حتى قال - صلى الله عليه وسلم -:"أَلاَ مَنْ ظَلَمَ
مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ
أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ" ص. أبي داود؟. فهل يعامل الغربيون أسرى المسلمين بمثل هذا الحِلم، وشبيه هذه العناية؟ أم إنه الانتقام الشرس، والاعتداء الظالم.
انظر إلى حسن معاملة الأسير في الإسلام كيف غيرت النفوس، وغزت القلوب، وملأتها صداقة بعد عداوة، وأخوة بعد منافرة.
فهذا ثُمامة بنُ أُثال أحد أسياد بني
حنيفة، يؤتى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أسيرا، فيعفو عنه النبي -
صلى الله عليه وسلم - ويقول: "أطلقوا ثمامة". فما كان من ثمامة إلا أن نطق
بالشهادتين وقال:"يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك،
فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي. والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك،
فأصبح دينك أحب دين إلي. والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك
أحب البلاد إلي".. فلما قدم مكة قال له قائل:"صبوت". قال: لا، ولكن أسلمت
مع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا والله، لا يأتيكم من
اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -" متفق عليه.
•
حتى في الحروب التي خاضها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أعدائه، ما كان
يقصد من ورائها دمارا شاملا، ولا خرابا مدمرا، ولا استئصالا للعدو جذريا،
ولا إبادة جماعية، بل كانت حروب رحمة وخلق رفيع، تقصد ردع المعارضين، وفسح
الطريق لنشر دعوة رب العالمين.
• فقد
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر - رضى الله عنه - أن امرأة وجدت في
بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقتولة، فأنكر رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قتل النساء والصبيان".
• وكان - صلى الله عليه وسلم - يوصي جنده قائلا:" اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا" مسلم.
•
وإلى الذين يزعمون أن الإسلام انتشر بالسيف، وأن غرضه كان جمع المال عن
طريق فرض الجزية - كما حاولوا يجسدوا ذلك في الفيلم المسيء -. يقول سَهْل
بْن سَعْدٍ - رضى الله عنه -: سمعتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -
يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ:"لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ
اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ".. فَغَدَوْا وَكُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَى.
فَقَالَ:"أَيْنَ عَلِيٌّ؟".. فقال علي:"نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا
مِثْلَنَا". فَقَالَ له النبي - صلى الله عليه وسلم -:"عَلَى رِسْلِكَ
حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ،
وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ
رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ" متفق عليه.
وإذا رحمتَ فأنت أم أو أب
هذان في الدنيا هم الرحماء
|
الخطبة الثانية
•
ومن عجيب ما خلده لنا التاريخ، مما ورثته أجيال العلماء والأمراء والحكام،
من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما رواه أبو عبيد في كتاب "الأموال"،
أن الوليد بن عبد الملك لما أخذ كنيسة يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في
المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز، شكا
إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم.
ولما أغار أمير التتار "قطلوشاه"
على دمشق في أوائل القرن الثامن الهجري، وأسَر من المسلمين والذميين من
النصارى واليهود عدداً، ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ومعه جمع من
العلماء، وطلبوا فك الأسرى، فسمح له بالمسلمين، ولم يطلق الأسرى الذميين،
فقال له شيخ الإسلام:"لا بد من افتكاك جميع مَن معك من اليهود والنصارى
الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع لديك أسيراً، لا من أهل الملة، ولا من أهل
الذمة، فإنَّ لهم ما لنا، وعليهم ما علينا"، فأطلقهم الأمير التتري جميعاً.
كل هذا حدا بعقلاء المفكرين الغربيين أن
يعترفوا بعظمة هذا الدين، وعظمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإسلام
هو الدين الوحيد الذي وسعت سماحته غير المسلمين، فعاشوا في ظله سالمين
آمنين. يقول"وول ديورانت": "لقد كان
أهل الذمة: المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون، يتمتعون في عهد
الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في
هذه الأيام".
وقال المستشرق "دوزي" في كتابه:"نظرات في تاريخ الإسلام":"إن
تسامح ومعاملة المسلمين الطيبةَ لأهل الذمة، أديا إلى إقبالهم على
الإسلام، وأنهم رأوا فيه اليسر والبساطة، مما لم يألفوه في دياناتهم
السابقة".
وقال المستشرق الألماني "برتلي سانت هيلر" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:"كان
في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه. وإن في شخصيته صفتين هما من
أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية، وهما: العدالة والرحمة".
لكن الكلام الصاعقة، هو ما أورده الإنجليزي "برناردشو" في كتابه "محمد"،
الذي أحرقته السلطة البريطانية، ومما جاء فيه:"إني أرى كثيراً من بني قومي
قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة
- يعني أوروبا -. وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفّق في حلّ
مشكلاتنا بما يُؤَمِّنُ السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها".
هذه شهادات المستشرقين والمفكرين الغربيين
المنصفين. فهل تفلح هذه الرسومات المغرضة، والأفلام الظالمة، في صد غير
المسلمين عن اعتناقه الدين الإسلامي؟ ذلك ما قد نعرفه بتفصيل في الجمعة
القادمة - إن شاء الله تعالى.
إرسال تعليق