من تصلي عليهم الملائكة؟!
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن
يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله.
أيها المؤمنون!
من أعظم الأدعية نفعاً، وأبلغها أثراً،
وأرجاها قبولاً ظفرُ العبدِ بصلاة الملائكة المسبحة بحمد ربها عليه؛ إذ هي
دعوة كرام بررة، لم يثنهم عن طاعة ربهم انقطاع، أو فتور، أو مللٌ طرفةَ
عين، ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ
﴾ [الأنبياء: 19، 20]. وبات من برهان إجابة دعاء أولئك المقربين إغراءُ
الشرع المكلفين بأعمال خير رتّب عليها دعاءَ الملائك لفاعلها، وتنفيرُه
إياهم عن بعض الأفعال المشينة بلعن الملائك فاعلها كالكفر الوارد في قول
الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
﴾ [البقرة: 161]، وامتناع الزوجة عن الفراش من غير بأس كما قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى
فِرَاشِهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ، لَعَنَتْهَا المَلاَئِكَةُ حَتَّى
تُصْبِحَ" رواه البخاري ومسلم، والإشارةِ إلى المسلم بحديدة، كما قال النبي
- صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ،
فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ
لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ" رواه مسلم.
أيها المسلمون!
إن صلاة الملائكة على المؤمنين تنظم في
عقدها طلب تحقيق ثلاثٍ غايات هي: المغفرة، والرحمة، والتوبة، وتلكم أهم ما
يفتقر إليه العباد، وأخرى رابعةٌ حسنةٌ: دعوةُ خيرٍ من مثل ما دعا به العبد
لأخيه. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ
عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ؛
يَقُولُونَ: اللهُمَّ ارْحَمْهُ، اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ تُبْ
عَلَيْهِ" رواه مسلم. فالعبد يتقلب بين حالين؛ خير يرجوه، وشر يحذره.
والرحمة جماع ما يُسأل من خير، والسيئات جماع ما يُحذر من شرٍ مما يُرفع
بالمغفرة سابقُه، ويُدفع بالتوبة لاحقُه؛ فتحصل بهما وقاية العبد من شؤم
الذنوب. وفي صلاة الملائكة على العبد الثناء عليه، والتنويه بالعمل الذي
أكسبه صلاتهم. وبصلاة الملائكة على العبد يُنقل من درك الشقاوة إلى ذرى
السعادة، ومن غياهب ظلمات الجهل والضلال إلى سبحات نور الهدى والإيمان
واليقين ثباتاً وزيادة. يقول الله - تعالى -: ﴿ هُوَ
الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43].
أيها الإخوة في الله!
إن شرف الحظوة بصلاة الملائكة على العبد
يدرك بمعرفة سببه مما وردت النصوص بثبوته، والقيام به. ومن تلك الأعمال
التي حاز العلماء سهب فضلها تعليم الناس الخير، يقول رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ
لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ" رواه الترمذي وقال: حسن
صحيح. ولا رتبة فوق رتبة مَنْ تشتغل الملائكة وجميع المخلوقات بالصلاة عليه
إلى القيامة! ونيْلُ تلكم البركة مرجوٌّ لمن علّم غيره خيراً، أو دلّه
عليه، أو حذره من شر وإن لم يبلغ شأو العلماء.
والبقاء في المصلّى وانتظار الصلاة من
أسباب صلاة الملائكة على العبد مالم يُحْدِث أو يخرج من مصلاه، يقول رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: "المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ
مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ،
اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ
الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ
إِلَّا الصَّلاَةُ" رواه البخاري، وروى أحمد بإسناد حسنه ابن المديني أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى الفجر ثُمَّ جلس فِي مصلاه صلت
عَلِيهِ الملائكة، وصلاتهم عَلِيهِ: اللهم اغفر لَهُ، اللهم ارحمه، ومن
ينتظر الصلاة صلت عَلِيهِ الملائكة، وصلاتهم عَلِيهِ: اللهم اغفر لَهُ،
اللهم ارحمه".
والمرأة تنال هذا الفضل بمكوثها طاهرةً في
مصلاها المنزلي. والصلاة في الصف الأول من أسباب صلاة الملائكة على العبد،
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ" رواه ابن ماجه وصححه البوصيري.
وكلما تقدم المصلي في الصفوف ازداد رجاءُ فضلِ صلاةِ الملائكة عليه، قال
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ- رضي الله عنه -: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم - يَتَخَلَّلُ الصُّفُوفَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ،
يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا وَصُدُورَنَا، وَيَقُولُ: "لَا تَخْتَلِفُوا؛
فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ". وَكَانَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الْمُتَقَدِّمَةِ" رواه
النسائي وصححه الألباني.
والصلاة يمين الصف في صلاة الجماعة سبب
لصلاة الملائكة على العبد، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن
الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف" رواه أبو داود وحسنه ابن حجر. وذاك
ما كان يحرص الصحابة - رضي الله عنهم - عليه، يقول البراء بن عازب - رضي
الله عنه -: "كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم - أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا
بِوَجْهِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ
تَبْعَثُ - أَوْ تَجْمَعُ - عِبَادَكَ" رواه مسلم. وسدُّ الفُرَج ورَصُّ
الصفوف في الصلاة من أسباب صلاة الملائكة على العبد، يقول رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ" رواه أحمد وصححه الحاكم على شرط مسلم
ووافقه الذهبي. وأكل السحور سبب لصلاة الملائكة على العبد، يقول رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يصلون على
المتسحرين" رواه أحمد وصححه ابن حبان وحسنه الألباني. وعيادة المريض سبب
لصلاة الملائكة على العبد، فقد عَادَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ
الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنهم -، فَقَالَ
لَهُ عَلِيٌّ: أَعَائِدًا جِئْتَ أَمْ زَائِرًا؟ قَالَ: لَا، بَلْ جِئْتُ
عَائِدًا، قَالَ عَلِيٌّ: أَمَا إِنَّهُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ
مَرِيضًا إِلا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، كُلُّهُمْ
يَسْتَغْفِرُ لَهُ، إِنْ كَانَ مُصْبِحًا حَتَّى يُمْسِيَ، وَكَانَ لَهُ
خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُمْسِيًا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ
أَلْفَ مَلَكٍ، كُلُّهُمْ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ
خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ. رواه أحمد وأبو داود من غير قصة وصححه الألباني.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المؤمنون!
ومن أسباب صلاة الملائكة على العبد صيامه
عند قوم يأكلون، فقد دخل النبي - صلى الله عليه وسلم -على أم عمارة - رضي
الله عنها - فَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ طَعَامًا، فَقَالَ: "كُلِي"، فَقَالَتْ:
إِنِّي صَائِمَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ
الصَّائِمَ تُصَلِّي عَلَيْهِ المَلَائِكَةُ إِذَا أُكِلَ عِنْدَهُ حَتَّى
يَفْرُغُوا"، وَرُبَّمَا قَالَ: "حَتَّى يَشْبَعُوا" رواه الترمذي وقال:
حسن صحيح. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أسباب صلاة
الملائكة على العبد، يقول عليه الصلاة والسلام: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ لَمْ
تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ يُصَلِّي عَلَيَّ،
فَلْيُقْلِلْ مِنْ ذَلِكَ الْعَبْدُ أَوْ لِيُكْثِرْ" رواه أحمد وحسنه
المنذري بشواهده.
أيها المسلمون!
وثمة دعوةٌ أحرى ما تكون إجابتها بتأمين
الملك عليها وأن ينال الداعيَ مثلُها، وتلك هي دعوة المسلم لأخيه في ظهر
الغيب، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ
يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ
بِمِثْلٍ" رواه مسلم، وفي رواية له: " مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ
الْغَيْبِ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ".
فدونكم - معشر الإخوة - سبلَ دَرَكِ الخير حين تصلي عليكم الملائكة المكرمون بفعل أحد هذه الخصال العشر، ومن زاد زِيدَ في صلاته.
اللهم...
إرسال تعليق