فاكهة النبي صلى الله عليه وسلم والأكل على السفرة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله
فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له وأن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
حديث معكم في هذه الخطبة استكمال لما بدأت
به في الجمع الماضية في بيان بعض شمائل النبي صلى الله عليه وسلم فيما
يتعلق بشؤون حياته الدنيوية ففي هذه الخطبة أذكر ما وقفت عليه مما صح في
أكل النبي صلى الله عليه وسلم الفاكهة وطريقة تقديم الطعام للنبي صلى الله
عليه وسلم.
أكل النبي صلى الله عليه وسلم جُّمَّار
النخل فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ يَأْكُلُ جُمَّارًا فَقَالَ مِنَ
الشَّجَرِ شَجَرَةٌ كَالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ
النَّخْلَةُ فَإِذَا أَنَا أَحْدَثُهُمْ قَالَ هِيَ النَّخْلَةُ" رواه
البخاري (2209) والْجُّمّارُ هو أصل عسيب النخل من الدخل قبل ظهوره ويسمى
شَحْم الْنَّخْل لبياضه.
و ذكرُ العنبِ وأحكامه في نصوص السنة كثيرٌ وعن ابن عباس قال: ((كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْقَعُ لَهُ الزَّبِيبُ
فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إِلَى مَسَاءِ
الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيُسْقَى أَوْ يُهَرَاقُ)) رواه مسلم
(2004) والزبيب هو العنب إذا يبس ووردت أحاديث في أكل النبي صلى الله عليه
وسلم العنب ومحبته له ولا تخلو من ضعف وضعف بعضها شديد.
وأكل النبي صلى الله عليه وسلم الدباء
مطبوخاً، ففي حديث أنس رضي الله عنه "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ القرع مِنْ حَوَالَيْ
الْقَصْعَةِ قَالَ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ
"رواه البخاري (2092) ومسلم (2041).
وأكل النبي صلى الله عليه وسلم الأقط
والأقط هو اللبن يطبخ ويجفف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ: رَأَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ مِنْ ثَوْرِ
أَقِطٍ". رواه ابن خزيمة (42) وابن حبان (1151) والثور القطعة من الأقط.
وأكل النبي صلى الله عليه وسلم الرطب
والقثاء وهو نوع من أنواع الخيار فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي
الله عنه قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ
الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ "رواه البخاري (2092) ومسلم (2043).
قال ابن الجوزي في كشف المشكل (4/11) في هذا الفعل معنيان:
أحدهما: إثبات الطب ومقابلة الشيء بضده؛ فإن القثاء رطب بارد والرطب حار يابس، فباجتماعهما يعتدلان.
والثاني: إباحة التوسع في الأطعمة ونيل الملذوذات المباحة.
وأكل النبي صلى الله عليه وسلم البطيخ
فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ " رواه الترمذي (1843) وقال حَدِيثٌ
حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وعن أنس رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يجمع بين الخِرْبِز والرّطب» رواه الترمذي في
الشمائل(200) وإسناده صحيح.
واختلف شراح السنة بالمراد بالبطيخ هل هو
الأخضر المعروف بالجُح أو هو الأصفر الخِرْبِزُ ومنه ما يسمى الشمام قال
الحافظ ابن حجر في الفتح (9/573) الخربز نوع من البطيخ الأصفر... وفي هذا
تعقب على من زعم أن المراد بالبطيخ في الحديث الأخضر. وقال ابن القيم في
زاد المعاد (4/263) المراد به الأخضر وهو بارد رطب.
إخوتي: روي
عَنْ أَنَسٍ: " أَنَّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَأْخُذُ الرُّطَبَ بِيَمِينِهِ وَالْبِطِّيخَ بِيَسَارِهِ،
فَيَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْبِطِّيخِ وَكَانَ أَحَبّ الْفَاكِهَةِ إِلَيْهِ "
رواه البيهقي في شعب الإيمان (5593) وأشار إلى ضعفه.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
الأكل بالشمال فعن سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا
أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ فَقَالَ
كُلْ بِيَمِينِكَ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ لَا اسْتَطَعْتَ مَا
مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ "رواه مسلم
(2021) فمن يأكل نوعين من الطعام أو الشراب في وقت واحد يجب عليه أن يأكل
ويشرب بيمينه.
إخوتي من المعلوم أن مكة والمدينة ليس
فيهما أغلب أنواع الفاكهة ولا يمكن نقل الفاكهة لهما لأنها تفسد قبل وصولها
وإنما اشتهرت المدينة بالتمر فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل مما يجده
من الفاكهة فسنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يترك الطيبات زهداً بل
أنكر ربنا عز وجل على من امتنع من الطيبات تعبدا ﴿ يَا
بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ *
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 31، 32]
الخطبة الثانية
أشير إلى مسألتين تتعلقان بالأكل وهما حكم الأكل باليد وغيرها وحكم الأكل على السفرة سائلاً الله أن يلهمنا الرشد في شأننا كله.
النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل بيده
فهل من السنة الأكل باليد أو هو من العادات فلا يتعلق به تعبد الذي يظهر لي
أن الأكل باليد من العادات وليس من العبادات فعادة العرب في الجزيرة قبل
الإسلام وبعده الأكل بالأيدي فأكل النبي صلى الله عليه وسلم بيده كعادة
قومه فأصل الأكل باليد ليس سنة لكن تكون السنة في صفة الأكل فمن أكل بيده
يسن أن يأكل بثلاثة أصابع وأن يلعق أصابعه بعد الفراغ من الأكل الرَطِب فلا
بأس بالأكل بالملعقة والشوكة والسكين وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم
السكين وهو يأكل فعن عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ فَدُعِيَ إِلَى
الصَّلاَةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا ثُمَّ
قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ" رواه البخاري (5408) ومسلم (355) وبوب
البخاري على الحديث باب قطع اللحم بالسكين. وقال البهوتي في كشاف القناع
(5/ 176) (لا بأس بالأكل بالملعقة).
المسألة الثانية حكم الأكل على السفرة أي
الأكل على الطاولة والكرسي وقبل أن أذكر الحكم لنعلم أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان أغلب أكله أنه كان يأكل على فراش من جلد يوضع على الأرض
ويوضع فوقه الطعام.
ففي حديث أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في
زواج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة قال:" أَمَرَ بِلَالًا
بِالْأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ فَأَلْقَى عَلَيْهَا التَّمْرَ وَالْأَقِطَ
وَالسَّمْنَ..." رواه البخاري (4213) ومسلم (1365).
وربما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على
خوان والخوان عرفه العيني بقوله في عمدة القاري (21/35) هو طبق كبير من
نحاس تحته كرسي من نحاس ملزوق به، طوله قدر ذراع انتهى فيوضع الطعام على
الخوان حتى لا يحتاج الآكل إلى حني رقبته حين الأكل فعن ابن عباس إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ
مَيْمُونَةَ وَعِنْدَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
وَامْرَأَةٌ أُخْرَى إِذْ قُرِّبَ إِلَيْهِمْ خُوَانٌ عَلَيْهِ لَحْمٌ
فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَأْكُلَ قَالَتْ لَهُ مَيْمُونَةُ إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ فَكَفَّ يَدَهُ
الحديث " رواه مسلم (1948) وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأُكِلَ [الضب] عَلَى
مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا
أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"رواه البخاري
(2575) ومسلم (1947) والمائدة هي الخوان عليه الطعام.
لكن يشكل على ذلك ما رواه قَتَادَةَ عَنْ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ عَلَى سُكْرُجَةٍ قَطُّ [إناء صغير توضع
فيه المقبلات] وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ وَلَا أَكَلَ عَلَى
خِوَانٍ قَطُّ قِيلَ لِقَتَادَةَ فَعَلَامَ كَانُوا يَأْكُلُونَ قَالَ
عَلَى السُّفَرِ رواه البخاري (5386).
ففي هذا الحديث ينفي أنس أكل النبي صلى
الله عليه وسلم على الخوان وابن عباس يثبت ذلك فأكل النبي صلى الله عليه
وسلم على الخوان قليل فلم يطلع عليه أنس رضي الله عنه والله أعلم قال ابن
القيم في زاد المعاد (1/142) كان معظم مطعمه يوضع على الأرض في السفرة وهي
كانت مائدته.
وقال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري
(9/469) الأكل على الخوان مباح أيضًا، وليس نفى أنس أن النبي عليه السلام
لم يأكل على خوان ولا أكل شاة مسموطة يرد قول من روى عن النبي عليه السلام
أنه أكل على خوان وأنه أكل شواء، وإنما أخبر كل بما علم.
وقد كان الأكل على الخوان مشتهراً في عهد التابعين ومن أتى بعدهم فلذا قِيلَ لِقَتَادَةَ فَعَلَامَ كَانُوا يَأْكُلُونَ؟
فالأكل على الخوان كالأكل على الطاولة لكن
الآكل يكون جالساً على الأرض. والأصل في الأكل على الطاولة والكرسي
الإباحة لأنه من العادات وشاع وانتشر في بلاد المسلمين فلم يكن من خصائص
الكفار. وجه سؤال للجنة الدائمة برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن باز (26/ 309)
هل صحيح أن الأكل على الطاولة (غرف السفرة) تشبها بالكفار، وهل استعمال
الملعقة أو الشوكة أثناء الأكل من الكبر، أو من التشبه بالكفار؟.
فأجابت:
لا حرج في الأكل على ما ذكر من الطاولة ونحوها، ولا في الأكل بالشوكة
والملعقة ونحوهما، وليس في ذلك تشبه بالكفارة لأنه ليس مما يختص بهم.
إرسال تعليق