0
أحمد عبد المجيد مكي

مصادر التشريع الإسلامي - بحمد الله - معروفة محفوظة، و السُنَّة المُطَهَّرَة هي ثانية هذه المصادر ، بَيْدَ أَنَّها تعرضت في القديم لهجمات بعض المغرضين والجاهلين ، وقد خَيَّبَ الله عز وجل سعيهم ، فَقَيَّضَ للسنة جهابذة نُّقَّادا عملوا على تمييز صحيحها من سقيمها، و بذلوا في ذلك جهدا تتفاخر به الأجيال ، وسلكوا  طُرُقًا هي أقوم الطرق العلمية للنقد والتمحيص، حتى ليستطيع الباحث المنصف أَنْ يجزم بأنهم أول من وضعوا قواعد النقد العلمي الدقيق للأخبار والمرويات بين أمم الأرض كلها، كل ذلك صيانة للجناب النبوي ، أَنْ يُنْسَب إِليه كذبٌ أَو يُحَدَّثَ عنه بكلام لم يقله.
ومن الخطوات التي سلكها العلماء في ذلك: الاهتمام بإسناد الحديث وبيان حال رواته، ووضع قواعد عامة لتقسيم الحديث وتمييزه، وتأليف الكتب التي تُسَهّل لغير المتخصصين التعرف إلى درجة الحديث ، وقد انتشرت هذه الكتب بين القاصي والداني بحيث أصبح ﻣﻦ السهل ﻋﻠﻰ كل متحدث أَنْ يرجع إليها إذا أراد أَنْ ينسب حديثا إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم، و يُخْشَى على من أهمل ذلك أو قصر فيه أَنْ يكون له حظ وافر من الوعيد الثابت في تحريم الكذب على الله ورسوله.
وكثيرا ما يَطْرُقُ أسماعنا استشهاد بعضهم بحديث : إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جُنْدًا كَثِيفًا ، فذلك الجند خَيْرُ أَجْنَادِ الأرْضِ. فقال له أبو بكر : ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال : لأنهم في رباط إلى يوم القيامة ) ، ويتخذونه سَنَدًا لاستباحة ألأنفس و الأعراض والأموال، وتأجيج الصراع والتمييز الطبقي والعنصري؛ لذا كان من الضروري أن نقف مع هذا الحديث -رواية ودراية- في النقاط الآتية:
أَوَّلًا: هذا الحديث لا يوجد في شيء من كتب السنة المعروفة ، و إِنَّمَا ورد في بعض كتب التاريخ، ومنها كتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم (المتوفى: 257هـ) ، و تاريخ دمشق لابن عساكر (المتوفى: 571هـ) بِإِسْنَادَيْنِ تالفين، يعلم من له أدنى صلة بعلم الجرح والتعديل أَنَّ رجالهما مابين ضعيف ومجهول ، و مِنْ ثَمَّ لم يصححه مُعْتَبَرٌ من أهل الصَّنْعَةِ ، بل حَكَمَ عليه العلماء بالوضع أو بالضعف الشديد.
ثَانِيًا : على فرض أَنَّه ضعيف فقط وليس بموضوع؛ فلا يصح الاحتجاج به - على رأي من يرى أنَّ الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال -، وذلك لأنَّه فاقد للشروط التي اشترطها العلماء ، وهي: أن لا يكون الضعف شديداً ، أن يكون مضمون الحديث مندرجاً تحت أصل عام ، أَلَّا يعتقد عند العمل به ثبوته لئلا ينسب إلى النبي  ما لم يقله ، وبتدقيق النظر في هذه الشروط نجد أَنَّهَا كلها أو معظمها لا ينطبق على النَّصِّ المذكور.
ثَالِثًا : ثبت في فضائل مصر حديث رواه مسلم في صحيحه ، كتاب الفضائل ، بَابُ وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ مِصْرَ وفيه: &artshow-86-210201.htm#171;إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا ، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا) ، والقيراط معيار فِي الْوَزْن وَفِي المقياس اخْتلفت مقاديره باخْتلَاف الْأَزْمِنَة، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به ، والمقصود بقوله (فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً) أي :حرمة وأمانا من جهة إبراهيم بن المصطفى صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ أُمَّه مارية منهم ، ومن العلماء من قال بأنَّه أراد بالذمة :العهد الذي دخلوا به في الإسلام زمن عمر فَإِنَّ مصر فتحت صُلْحًا ، وأَمَّا  قوله (وَرَحِمًا) ، أي قرابة لأنَّ هاجر أُمَّ إسماعيل منهم ، والحديث -كما ترى -ليس فيه إِشَارَةٌ من قريب أو بعيد لجيش مصر أو جندها.

رَابِعًا: الحديث لم يصححه مُعْتَبَرٌ-كما أَشَرْتُ - لكن لو سلمنا جدلا بإِنَّه صالح لأن يحتج به ، تكون هذه الأفضلية ثابتة فقط حين يبذل هؤلاء الجند جهدهم لتكون كلمة الله هي العليا ، وحين يأتمنهم الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم - لا لغير ذلك من أغراض النفس وحظوظها- ، فمن قام بهذا فحقيق به أن يكون من خير أجناد الأرض أَيًّا كان موطنه أو نَسَبُهُ ، إِذْ لَيْسَ بين الله عز وجل وبين أحد من خلقه نَسَب. وقد وردت نصوص كثيرة تفيد هذا المعنى،  وتحذر كل عاقل مِنَ الاتكال على شرف نَسَبه وفضيلة آبائه، منها: &artshow-86-210201.htm#171; يَا مَعْشَرَ قرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا ... يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَلِيني مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا» ،&artshow-86-210201.htm#171;مَنْ أَبْطَأَ به عَملُهُ لم يُسْرِعْ بِهِ نَسبُهُ»، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن البلد قد تحمد أو تذم في بعض الأوقات لحال أهله ثم يتغير حال أهله فيتغير الحكم فيهم؛ إذ المدح والذم والثواب والعقاب إنما يترتب على الإيمان والعمل الصالح أو على ضد ذلك من الكفر والفسوق والعصيان. .. وكتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي -وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق - أن هلم إلى الأرض المقدسة. فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الرجل عمله. وكان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا. 
وختاما : في الصحيح غُنْيَةٌ وكفاية لمن رام نفع العباد وصلاح البلاد ، فعلى المسلم ﺃﻥ ﻳﺘﺜﺒّﺖ ﻓﻲ ﻛﻞّ ﻣﺎ ﻳﻨﻘﻠﻪ عن الشرع؛ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﻨﺴﺐ ﺇليه ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻣﻨﻪ ، فيُضِلَّ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﻐﻴﺮ ﻋﻠﻢ، و ﻳﺼﺪﻕ فيه ﻗﻮﻝ ﺍﻟﻘﺎﺋﻞ : رامَ نفعاً فضرَّ من غير قَصْدٍ ... ومن البرِّ ما يكون عقوقا . نسأل الله أن يرزقنا الْإِخْلَاص في القول والعمل، و الصِّدْقَ في السِّرِّ و الْعَلَنِ ، آمين

إرسال تعليق

 
Top