ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أخبار كثير من
الأمم السابقة، وخصوصاً تلك الأمم التي أرسل إليهم أنبياءه الكرام، وأخبر
تعالى عن المؤمنين منهم والكافرين، وكيف كانت الغلبة لعباده المؤمنين، ومن
تلك الأمم قوم فرعون في أرض مصر، وفي طيات هذا الإخبار جاء ذكر بعض
الشخصيات في دولة فرعون، ومن تلك الشخصيات وزير من وزراء فرعون، وقد كان
هذا الوزير مثالاً لوزير السوء في بلاط الملك الكافر، هذا الوزير هو هامان،
وقد أخبر القرآن العظيم عن هذا الوزير في أكثر من موضع، وأشار إلى بعض
أفعاله والمهام التي كان فرعون يكلها إليه، مع العلم بأن هذا الإخبار جاء
في زمن كانت فيه هذه الأخبار قد اندثرت وأصبحت من الغيب الماضي، فجاء هذا
الإخبار ليجلي هذه الحقيقة الغائبة في تلك الحقبة التاريخية من دون إخلال
بالتفاصيل الهامة، وسنتكلم في هذا المقال عن هذا الوزير هامان في القرآن وعن بعض ملامح شخصيته، وعن علاقته بفرعون.
ذكر هامان في القرآن الكريم:
جاء ذكر هامان في ستة مواضع في كتاب الله، وهي على النحو التالي:
من خلال هذه الآيات الكريمة يظهر لنا مقدار تلك الصلة الوثيقة والرابطة القوية بين هامان وفرعون، فقد ارتبط اسم هامان باسم فرعون في كل تلك الآيات، مما يدل على قوة العلاقة بين هاتين الشخصيتين، فقد اشتركا في التكذيب بنبي الله موسى عليه السلام، وكان هامان سنداً وعوناً لفرعون.
هامان في ضوء الاكتشافات التاريخية:
لقد تجلت كثير من أمور التاريخ الفرعوني بعد
الاكتشافات التاريخية والدراسات التي قامت بها الحملات العلمية، ومن ضمن
تلك الاكتشافات، اكتشاف ما يسمى بحجر رشيد، وقد كان هذا الحجر مكتوباً عليه
بثلاث لغات هي اللغة الهيروغليفية والديموقيطية واليونانية وبمساعدة
اليونانية تم فك لغز الهيروغليفية من قبل شامبليون وبعدها تم معرفة الكثير
من تاريخ الفراعنة ومن خلال ترجمة نقش من النقوش المصرية القديمة تم الكشف
عن اسم (هامان).
وهذا الاسم أشير إليه في لوح أثري في متحف هوف في فينا، وتوجد مجموعة أخرى من النقوش كشفت لنا أن هامان كان في زمن تواجد موسى في مصر قد رُقّي إلى أن أصبح مديراً لمشاريع الملك الأثرية، وقد كان هامان رفيق
الصبا لفرعون (رمسيس الثاني)، كما جاء ذلك في كتاب: Pharaoh Triumphant
the life and times of Ramesses II K.A. Kitchen، ونسخته العربية (رمسيس
الثاني، فرعون المجد والانتصار، ترجمة د.أحمد زهير أمين) ويذكر هذا المؤلف
أن هامان ترقى
وصار قائد المركبات الملكية وناظر الخيل، وهذا مصداق قوله تعالى:
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُون}.. [القصص : 6] فقد جاء في
هذه الآية أن هامان كان له جنود يقودهم، ويواصل المؤلف ويقول أن هامان أصبح رسول الملك إلى كل البلاد الأجنبية، وأن هذا المنصب كان مقصوراً على كبار ضباط سلاح العربات الحربية.
ويذكر موريس بوكاي أنه وجد اسم هامان في
"قاموس أسماء الأشخاص في المملكة الجديدة Dictionary of Personal names of
the New Kingdom" هو القاموس المستند على مجموعة المعلومات المستقاة من
الكتابات المصرية القديمة، وأن عمله هو رئيس عمال المقالع.
وقد شهد القرآن بذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ
فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبَاب}.. [غافر : 36].
فطلب فرعون هذا العمل - وهو بناء الصرح - من هامان يدل
على هذا العمل كان من مهام وزيره هامان. وجاء في قوله تعالى: {وَقَالَ
فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ
غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً
لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ
الْكَاذِبِينَ}.. [القصص : 38]، أن فرعون حدد لهامان مادة هذا البناء وهي
الطين الموقود (المحروق) وهو ما يسمى الآجر، وهذا يعتبر من الإعجاز
التاريخي للقرآن الكريم فقد ظل الاعتقاد السائد عند المؤرخين أن الآجر لم
يظهر في مصر القديمة قبل العصر الروماني وذلك حسب رأي بعض المؤرخين، وظل
هذا هو رأي المؤرخين إلى أن عثر عالم الآثار بتري على كمية من الآجر
المحروق بنيت به قبور، وأقيمت به بعض من أسس المنشآت، ترجع إلى عصور
الفراعين رمسيس الثاني ومرنبتاح وسيتي الثاني من الأسرة التاسعة عشر (1308-
1184 ق. م) وكان عثوره عليها في: "نبيشة" و"دفنه" غير بعيد من بيت رمسيس
(قنطير) عاصمة هؤلاء الفراعين في شرق الدلتا.
من خلال ما سبق نرى الإعجاز التاريخي واضحاً جلياً في إخبار القرآن الكريم عن شخصية الوزير هامان، فأشارت الآيات إلى الصلة القوية والرابطة الوثيقة بين هامان وفرعون (رمسيس الثاني) من اقتران اسم هامان باسم فرعون في كل المواضع التي جاء فيها ذكر هامان، وهذا مطابق للكشوف التاريخية التي تجعل من هامان رفيقاً لفرعون في صباه، ووزيراً له زمن توليه للملك.
وأخبرت الآيات السابقة أن فرعون طلب من هامان أن
يبني له صرحاً من الطين الموقود وهو الآجر، حتى يطّلع إلى إله موسى -تعالى
الله عن ذلك علواً كبيراً- وكأن هذا العمل من مهام هامان، وفي ذلك مطابقة
تامة لما كشفت عنه الدراسات التاريخية من أن هامان كان
وزير البناء في مملكة فرعون، وأن الآجر كان معروفاً ومستخدماً في عمليات
البناء آنذاك بخلاف ما كان يقوله المؤرخون قبل هذا الاكتشاف.
إرسال تعليق