0

رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأسرى



في الوقت الذي كانت فيه الحروب الجاهلية لا تعرف أيسر قواعد أخلاقيات الحرب، ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمبادئه العسكرية؛ ليشرِّع للعالمين تصوراً شاملاً لحقوق الأسرى في الإسلام.

وفي هذا العصر الحديث، الذي نرى فيه المنظمات الدولية قد شرَّعت بنوداً نظرية - غير مفعَّلة ولا مطبَّقة - لحقوق الأسرى، كاتفاقية جنيف، بشأن معاملة أسرى الحرب، ورعايتهم جسدياً ونفسياً.

وخير دليل على عدم تطبيق هذه الاتفاقيات، ما فعله الصرب بمسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفا، من مذابح يندى لها جبين البشرية، ولقد أنشأ الصرب معسكراتٍ أُعدت خصيصى لاغتصاب المسلمات.

وما يفعله الصهاينة في فلسطين، وما فعله الأمريكان في العراق وأفغانستان والسودان والصومال من فساد في الأرض، وإهلاك للحرث والنسل، ومذابح جماعية للأسرى والضعفاء، وهتكٍ للأعراض الطاهرة، في معتقلات - سرية أو علنية - لا تعرف أي معنى لكرامة الإنسان.

في حين نرى رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يشرِّع قبل هذه المنظمات بمئات السنين حقوقاً شاملة وجامعة للأسرى، أضف إلى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل هذه الحقوق بنوداً نظرية بعيدة عن واقع الحروب - كما هو الحال في عصرنا - بل جعلها منهجاً عملياً، وطبقها بنفسه في غزواته، وطبقها الصحابة والتابعون - من بعدهم - في السرايا والمعارك الإسلامية.

إن في إكرام النبي - صلى الله عليه وسلم - للأسرى، مظهراً فريداً من مظاهر الرحمة، في وقت كانت تُستَباح فيه الحرمات والأعراض.

"وكثيراً ما أطلق - صلى الله عليه وسلم - سراح الأسرى في سماحة بالغة، برغم أن عددهم بلغ في بعض الأحيان ستة آلاف أسير"[1].

يقول لويس سيديو: "والكل يعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - رفض - بعد غزوة بدر- رأْيَ عمر بن الخطاب في قتل الأسرى، وأنه صفح عن قاتل عمِّه حمزة، وأنه لم يرفض - قط - ما طُلب إليه من اللطف والسماح"[2].

نماذج في معركة بدر (17 رمضان 2هـ)
لقد استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - وزراءه من الصحابة في أُسارى بدر؛ فأشار عليه أبو بكر - رضي الله عنه - أن يأخذ منهم فدية؛ فهم بنو العم، والعفو عنهم أحسن، ولعل الله أن يهديهم إلى الإسلام، وقال عمر - رضي الله عنه -: "لا، والله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها".

فهوى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قال عمر، فلما كان من الغد أقبل عمر؛ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكى هو وأبو بكر؛ فقال عمر: "يا رسول الله، من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؛ فإن وجدت بكاء، بكيت، وإن لم أجد بكاء، تباكيت؛ لبكائكما؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء؛ لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة"، وأنزل الله - تعالى - قوله: ﴿ ‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾ [الأنفال: 67].

وقد تكلم العلماء في أي الرأيين كان أصوب؛ فرَجَّحَت طائفة قول عمر؛ لهذا الحديث، ورجحت طائفة قول أبي بكر؛ لاستقرار الأمر عليه، وموافقته الكتاب الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم، ولموافقته الرحمة التي غلبت الغضب، ولتشبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في ذلك بإبراهيم وعيسى، وتشبيهه لعمر بنوح وموسى، ولحصول الخير العظيم، الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى، ولخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين، ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء، ولموافقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر أولاً، ولموافقة الله له آخراً؛ حيث استقر الأمر على رأيه، ولكمال نظر الصديق؛ فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخراً، وغلَّب جانب الرحمة على جانب العقوبة[3].

وحين أُتي بالأسارى - بعد بدر - فرَّقهم النبي- صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه وقال: ((استوصوا بهم خيراً))[4]، وبهذه الوصية النبوية الرفيعة، تحقق في هذا الجيل الإسلامي الفضيل قول الله تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ [الإنسان: 8].

وهذا أبو عزيز بن عمير، أخو مصعب بن عمير، يحدثنا عما رأى، فيقول: "كنت في الأسرى يوم بدر[5]، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((استوصوا بالأسارى خيراً))[6]. وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر؛ فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياهم بنا؛ ما تقع في يد رجل منهم كِسرة خبز إلا نفحني بها، قال: فأستحيي؛ فأردُّها على أحدهم؛ فيردها عليَّ ما يمسها"[7].

ويقول جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -: "لما كان يوم بدر، أُتي بالعباس، ولم يكن عليه ثوبٌ؛ فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - له قميصاً؛ فوجدوا قميص عبدالله بن أُبي يقدر عليه فكساه النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه"[8].

كان هذا الخُلق الكريم، الذي غرسه القائد الرحيم - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه وجنده وشعبه، قد أثَّر في إسراع مجموعة من كبراء الأسرى وأشرافهم إلى الإسلام؛ فأسلم أبو عزيز عقب معركة بدر، بُعيد وصول الأسرى إلى المدينة، وتنفيذ وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم معه السائب بن عبيد.

وعاد الأسرى إلى بلادهم وأهليهم، يتحدثون عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ومكارم أخلاقه، وعن محبته وسماحته، وعن دعوته، وما فيها من البر والتقوى والإصلاح والخير[9].

نموذج معركة بني المصطلق (شعبان 5هـ)
لقد أطلق المسلمون مَن في أيديهم، من أسرى بني المصطلق - بعد معركة معهم - وذلك أن جُوَيْرِيَة بنت الحارث - سيد بني المصطلق - وقعت في سهم ثابت بن قيس؛ فكاتبها؛ فأدى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها؛ فأعتق المسلمون بسبب هذا الزواج مئة رجل من بني المصطلق، قد أسلموا، وقالوا‏:‏ "أصهار رسول الله، صلى الله عليه وسلم"[10].

فقد كره المسلمون أن يأسروا أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة رضي الله عنها: "فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها"[11].

واستكثر الصحابة على أنفسهم أن يتملَّكوا أصهار نبيهم وقائدهم - صلى الله عليه وسلم - وحيال هذا العتق الجماعي، وإزاء هذه الأريحية الفذة؛ دخلت القبيلة كلها في دين الله.

إن مرد هذا الحدث التاريخي وسببه البعيد، هو حب الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتكريمهم إياه، وإكبارهم شخصه العظيم[12]، وتأسيهم بأخلاق قائدهم في معاملة الأسرى، التي عهدوها منه في حروب سابقة.

نموذج معركة حنين (10 شوال 8هـ)
يقول جان باغوت غلوب: "وكان انتصار المسلمين - على هوازن - في حُنين كاملاً، حتى أنهم كسبوا غنائم كثيرة، بين أعداد وفيرة من الإبل والغنم، كما أسروا عدداً ضخماً من الأسرى، معظمهم من نساء هوازن وأطفالها، وعندما عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الطائف دون أن يتمكن من فتحها شرع يُقسِّم الغنائم والأسلاب بين رجاله، ووصل إليه وفدٌ من هوازن المهزومة، المغلوبة على أمرها؛ يرجوه إطلاق سراح النسوة والأطفال من الأسرى؛ وسرعان ما لبَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - الطلب بما عُرف عنه من دماثة وتسامح، فلقد كان يَنشد من جديد في ذروة انتصاره، أن يكسب الناس، أكثر من نِشدانه عقابهم وقصاصهم"[13].

لقد تأثر مالك بن عوف - زعيم هوازن المهزومة - بهذا العفو الكريم، والخلق العظيم من سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعدما أطلق له كل الأسرى من قومه.

فجادتقريحته لمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ يُنشد أبياتاًً من الشعر، يشكر فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قائلاً:
مَا إنْ رَأَيْتُ وَلاَ سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ
فِي النَّاسِ كُلِّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمَّدِ
أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إذَا اجْتُدِي
ومَتَى تَشَأْ يُخْبِرْكَ عَمَّا فِي غَدِ
إذَا الْكَتِيبَةُ عَرَّدَتْ[14] أَنْيَابَهَا
بِالسَّمْهَرِيِّ وضَرْبِ كُلِّ مُهَنَّدِ
فَكَأَنَّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ
وَسْطَ[15]الْهَبَاءَةِِخَادِرٌ[16]فِي مَرْصَدِ.[17]


نماذج أخرى:
هبط على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية (في ذي القعدة 6هـ)، ثمانون رجلاً متسلحين، من جبل التنعيم[18] يريدون قتله، فأسرهم، ثم منَّ عليهم[19].

أُسر ثُمامة بن أَثال سيد بني حنيفة؛ فربطه الصحابة في سارية بالمسجد النبوي، ثم أطلقه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم[20].

وأعطى رسول الله كسوة ونفقة لابنة حاتم الطائي عندما وقعت أسيرة في أيدي المسلمين، بل حملها حتى خرجت مع بعض أناس من قومها[22].


ورأى الرسولُ أسارى بني قريظة، موقوفين في قيظ النهار تحت الشمس؛ فأمر مَن يقومون بحراستهم قائلاً: ((لا تجمعوا عليهم حرَّ هذا اليوم وحرَّ السلاح، قيلوهم حتى يبردوا))، وقد سُئل الإمام مالك - رحمه الله -: أيعذَّب الأسير إن رُجي أن يدل على عورة العدو؟ فأجاب قائلاً: ما سمعت بذلك[21]، وبذلك يحرم الإسلام تعذيب الأسرى، ويرفض إهانتهم، ويقرر عدم إهمالهم، كما لا يجوز تعذيب الأسير، ولا إهانته للحصول على معلومات عسكرية منه.


وأطلق يوم فتح مكة (رمضان 8هـ) جماعة من قريش فكان يقال لهم: الطلقاء[23].


وبعدُ، فهذه نماذج، تبين لنا مدى رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأسرى، وهذه المواقف وغيرها تكشف الستار عن شخصية بلغت من السمو والرفعة مبلغاً بعيداً، شخصية تحرك الأفئدة نحوها، بفيض عارم من الرحمة والعفو والسماحة.




[1] مولانا محمد علي؛ حياة محمد وسيرته، ص 269.

[2] لويس سيديو؛ (نقلاً عن كتاب الإسلام بين الإنصاف والجحود، ص 134).

[3] ابن القيم؛ زاد المعاد 3/ 99.

[4] ابن كثير؛ البداية والنهاية 3/ 307.

[5] أيام كان على غير الإسلام، وكان في جيش المشركين.

[6] ابن هشام 1/ 644.

[7] ابن هشام 1/ 644، وابن سيد الناس؛ عيون الأثر 1/ 393.

[8] البخاري (2846) وانظر: ابن حجر العسقلاني- فتح الباري 6/ 144.

[9] انظر: علي محمد الصلابي؛ السيرة النبوية، 2/ 42.

[10] ابن كثير؛ البداية والنهاية، 4/ 159.

[11] ابن كثير؛ البداية والنهاية، 4/ 159.

[12] انظر: علي محمد الصلابي؛ السيرة النبوية 2/ 184.

[13] جان باغوت غلوب؛ الفتوحات العربية الكبرى ص 157- 158.

[14] عردت؛ اشتدت وضربت، القاموس المحيط 1/ 313.

[15] الهباءة؛ غبار الحرب، مختار الصحاح، ص689.

[16] الخادر؛ المقيم في عرينه، والخدر ستر يمد للجارية من ناحية البيت.

[17] انظر: ابن هشام؛ السيرة النبوية 4/ 144، والبيهقي؛ دلائل النبوة 5/ 270، برقم (5440)، وعلي محمد الصلابي؛ السيرة النبوية ص 405، 406.

[18] جبل التنعيم؛ موضع بمكة في الحِل، وهو الآن مدينة صناعية بالمملكة العربية السعودية. انظر:معجم البلدان 2/ 49، ومعجم معالم الحجاز 2/ 44.

[19] انظر: ابن القيم؛ زاد المعاد 3/ 99.

[20] انظر: ابن القيم؛ زاد المعاد 3/ 99.

[21] انظر: وهبة الزحيلي- آثار الحرب، ص 414.

[22] ممدوح إبراهيم الطنطاوي؛ أخلاقيات الحرب في الإسلام، مجلة الجندي المسلم؛ العسكرية الإسلامية العدد 112.

[23] انظر: صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب قوله تعالى؛ ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ﴾ [الفتح: 24]، برقم (1808)، وابن القيم؛ زاد المعاد 5/ 59.


إرسال تعليق

 
Top