0
الشريعة الإسلامية شريعة غراء، شريعة ربانية كاملة متكاملة شاملة، شريعة متوازنة صالحة لكل زمان ومكان ولكل البشر على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم، شريعة جاءت وهدفها الأول والأخير إسعاد العباد وتحقيق مصالحهم والمحافظة عليها، ودرء الأضرار والمفاسد عنهم؛ فهي شريعة إنما وضعت لإقامة مصالح العباد في المعاش والمعاد في العاجل والآجل.
منذ بداية دراستي للشريعة والقانون وأنا أسمع تساؤلاً يثار بشكل مستمر حول مصطلح مبادئ الشريعة، ماذا يقصد به أهو نفسه أحكام الشريعة؟ وإذا كانت مبادئ الشريعة ليست هي أحكام الشريعة، فما الفرق بين كلا المصطلحين؟!
لقد برز هذا التساؤل كثيراً في الفترة الأخيرة، خاصة بعد ثورات الربيع العربي، إذ إن الحاجة باتت ملحة لسن دساتير جديدة تتلاءم مع مطالب الثوار، وإبان إعداد هذه الدساتير يطول النقاش رسمياً وإعلامياً عن المقصود بمبادئ الشريعة التي غالباً ما يُنَص في الدساتير العربية على اعتبارها مصدراً رئيسياً من مصادر التشريع. ولذا وجدنا أنه مهم جدا كتابة مقال؛ يوضح المقصود بأحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها، والفرق بين المصطلحين، وسنتولى ذلك على النحو التالي:
أولاً: مفهوم أحكام الشريعة الإسلامية:
يقصد بأحكام الشريعة الإسلامية: "القواعد التي سنها الله تعالى لعباده ليكونوا مؤمنين عاملين بها على ما يسعدهم في الدنيا والآخرة"[1].
وتعرف أحكام الشريعة في اصطلاح الفقهاء بأنها: "مجموعة الأحكام والقواعد الشرعية التي سنها الله لعباده، والتي بلغت عن طريق الرسل، وتحتوى على ما ينظم علاقة الإنسان بنفسه ثم بربه ثم بأخيه الإنسان، وبالجماعة التي يعيش فيها". أو هي: "النظم التي شرعها الله أو شرع أصولها ليأخذ الإنسان بها نفسه في علاقته بربه، وعلاقته بأخيه المسلم، وعلاقته بأخيه الإنسان، وعلاقته بالكون، وعلاقته بالحياة"[2].
وهناك من يعرفها بأنها: "مجموعة الأحكام التي سنها الله سبحانه وتعالى للناس جميعاً على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم"[3].
وتعرف أيضاً بأنها: "هي ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده من الأحكام على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وتشمل الأحكام العقائدية والأخلاقية والعملية (العبادات والمعاملات)"[4].
وتعرف كذلك بأنها: "هي مجموعة الأوامر والأحكام الاعتقادية والعملية التي يوجب الإسلام تطبيقها لتحقيق أهدافه الإصلاحية في المجتمع"[5].
وبالنظر إلى أحكام الشريعة الإسلامية نجدها تنقسم إلى قسمين:
1-  قسم الأحكام قطعية الثبوت والدلالة، وهي التي لا شك فيها ولا اجتهاد معها؛ لأنها ثبتت بالنصوص الواضحة التي لا خلاف فيها كوجوب الصلاة والزكاة وحرمة الخمر والميسر هذا من جهة كونها قطعية الثبوت، أما من جهة كونها قطعية الدلالة أي أنها دلت على معنى واحد لا يحتمل غيره ولا سبيل إلى فهم غيره بوجه من الوجوه.
2-  قسم الأحكام غير قطعية الثبوت أو الدلالة أو كليهما، وهي التي قد يكون هناك شك في ثبوتها كأحاديث الآحاد، أو أنها تحتمل أكثر من معنى وفيها مجال لترجيح بعض المعاني على بعض أو كلا الأمرين معاً، وهذه الأحكام تحتمل أكثر من تفسير وتحتاج إلى اجتهاد حسب الأصول وما يقتضيه السياق[6].
ثانياً: مفهوم مبادئ الشريعة الإسلامية:
مفهوم مبادئ الشريعة الإسلامية مفهوم حوله اختلاف اجتهادي، وبعد البحث والتقصي وجدنا عدة وجهات نظر لتعريف مبادئ الشريعة، وهي:
1-  يعرف بعضهم مبادئ الشريعة الإسلامية بأنها: هي مجرد المبادئ العامة فقط؛  مثل: مبدأ العدالة، ومبدأ لا ضرر ولا ضرار، ومبدأ حفظ النفس والمال، ومبدأ عدم الإكراه في الدين، وليس المقصود (أحكام) الشريعة نفسها. وفي ذلك تقول المستشارة تهاني الجبالي: "كما أنها -أي مبادئ الشريعة الإسلامية- تعد مصدراً باعتبارها أكثر تحديداً من المبادئ المستمدة من القانون الطبيعي وقواعد العدالة التي لا تصلح للتطبيق المباشر، ذلك لكون مبادئ الشريعة الإسلامية تحتوى أيضاً المبادئ الشرعية الكلية (جوامع الكلم الفقهية) التي استنبطها الفقه من الأصول وشهد بصدقها الفروع، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أن &artshow-86-206295.htm#071;شكل العقد يحكمه قانون محل حصوله»، أو &artshow-86-206295.htm#071;أن الغش يفسد كل شيء» ، أو &artshow-86-206295.htm#071;الغرم بالغنم»، أو &artshow-86-206295.htm#071;لا ضرر ولا ضرار»… إلخ"[7].
2-  هناك من يرى بأن الاسم العلمي لمبادئ الشريعة وكلياتها وأهدافها هو مقاصد الشريعة، ومقاصد الشريعة: هي الغايات والمصالح والمعاني والأهداف التي أتت الشريعة لتحقيقها في دنيا الناس. والمقاصد والمبادئ بهذا المعنى هي من الفقه والفهم للشريعة وليست هي الشريعة في ذاتها، وإنما هي نظريات وفهم عميق ومهم لهذه الشريعة. ومن هذا المنطلق تقسم مبادئ ومقاصد الشريعة إلى الضرورات (حفظ الدين-النفس-النسل-العقل-المال)، والحاجيات، والتحسينيات[8].
       والمعنى الدقيق لمبادئ الشريعة الإسلامية: هي الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها الواردة في القرآن والسنة دون غيرها من مصادر الفقه الإسلامي كالإجماع والقياس والاستحسان التي تقوم على الاجتهاد البشري خلافاً للقرآن والسنة، فمصدرهما الله سبحانه وتعالى، فالسنة باعتبارها وحي من الله سبحانه وتعالى تلحق بالقرآن الكريم فيما أتت به من أحكام شرعية قطعية الثبوت والدلالة[9].
ولقد ورد في نص حكم المحكمة الدستورية العليا المصرية ما يأتي: " ... فلا يجوز لنص تشريعي، أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعاً؛ لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية، وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً، ومن غير المتصور بالتالي أن يتغير مفهومها تبعاً لتغير الزمان والمكان، إذ هي عصية على التعديل ولا يجوز الخروج عليها، أو الالتواء بها عن معناها"[10].
والمصادر الأخرى غير القرآن والسنة، هي مصدر خصب للاجتهاد في المسائل الاختلافية التي لا يجوز أن تكون أحكامها جامدة، بما ينقص كمال الشريعة ومرونتها، وكما قضت المحكمة الدستورية بحق فإن الآراء الاجتهادية في المسائل المختلف عليها ليس لها في ذاتها قوة متعدية لغير القائلين بها، ولا يجوز بالتالي اعتبارها شرعاً ثابتاً متقرراً لا يجوز أن ينقض وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر في دين الله تعالى، وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل في كل اجتهاد[11].
وقد جاء في نص المادة (219) من الدستور المصري لسنة 2012م (الملغي العمل به) تفسير مبادئ الشريعة بالمعنى سالف الذكر، حيث نصت على أنه: " مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة ".
ولقد ورد في الأعمال التحضيرية للقانون المدني المصري أن المقصود بمبادئ الشريعة كلياتها التي ليست محل خلاف بين الفقهاء، فمبادئ الشريعة هي القواعد الكلية المشتركة بين الفقه الإسلامي[12].
وعليه فإن مبادئ الشريعة هي الأحكام العامة الكلية الأساسية، التي لا تكون محلاً للخلاف بين المذاهب دون التفصيلات المتغيرة بتغير كل مجتمع وشؤونه.
ثالثاً: الفرق بين أحكام الشريعة ومبادئها:
في إطار التفرقة بين أحكام الشريعة ومبادئها، فإن الدكتور عبد الرازق السنهوري لا يفرق بين مصطلحي الأحكام والمبادئ وهو يستخدمها كمرادفات لبعضهما البعض، ولكنه يفرق بين المبادئ أو الأحكام الشرعية الكلية القطعية التي مصدرها الأصول، القرآن الكريم والسنة النبوية، ويسميها المبادئ العامة التي لا يجوز مخالفتها، وبين المبادئ والأحكام التي مصدرها مذاهب الفقه الإسلامي، وهنا لا يشترط التقيد بمذهب معين فيمكن الرجوع إلى أي من المذاهب الأربعة، كما يمكن الرجوع إلى مذاهب أخرى كالزيدية والإمامية[13].
في حين أن هناك من يرى أن مصطلح مبادئ الشريعة يختلف عن مصطلح أحكام الشريعة، حيث أن المشرع الدستوري أورد تعبير "مبادئ الشريعة الإسلامية" لا أحكام الشريعة الإسلامية، ولو قصد النص على أحكام الشريعة لما أعجزه التصريح بذلك في النص، وهو ما يعنى الإحالة للمبادئ العليا وحدها. فمبادئ الشريعة الإسلامية تمثل المقاصد العليا الثابتة، في حين أن الأحكام منها ما هو متغير، يخضع للاختلاف الفقهي في استنباطها[14].
ونحن نرى أن مصطلح مبادئ الشريعة الإسلامية يختلف من حيث المدلول عن مصطلح أحكام الشريعة الإسلامية. فالفقه الإسلامي كما أسلفنا يقسم أحكام الشريعة الإسلامية إلى قسمين: قسم الأحكام قطعية الثبوت والدلالة، وهي التي لا شك فيها ولا اجتهاد معها؛ لأنها ثبتت بالنصوص الواضحة التي لا خلاف فيها. وقسم الأحكام غير قطعية الثبوت أو الدلالة أو كليهما، وهي التي تحتمل أكثر من تفسير واجتهاد حسب الأصول العامة وما يقتضيه السياق، وهي تمثل معظم أحكام الشريعة الإسلامية والمساحة الواسعة منها. وهذه كلها تسمى أحكام الشريعة الإسلامية، أما مبادئ الشريعة الإسلامية هي الأحكام قطعية الثبوت والدلالة، ومعنى ذلك أن مبادئ الشريعة جزء من أحكام الشريعة وليس العكس.
والله من وراء القصد  


محمد رفيق الشوبكي


[1] شوكت محمد عليان، التشريع الإسلامي والقانون الوضعي، ط1، دار الشواف للنشر والتوزيع، الرياض، ص1956م، ص11.
[2] محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، ط18، دار الشروق، القاهرة، 2001م، ص10.
[3] محمد علي التهانوي، موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، الجزء الأول، ط1، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1996م،               ص1018 وما بعدها.
[4] أنور العمروسي، التشريع والقضاء في الإسلام، بلا طبعة، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، 2000م، ص18،19.
[5] مصطفى أحمد الزرقا، المدخل الفقهي العام، الجزء الأول، ط1، دار القلم، دمشق، 1998م، ص48.
[6] ماهر حامد الحولي، مرجع سابق، ص208،209. آدم يونس، تغير الأحكام في الفقه الإسلامي، موقع الإسلام، رابط الموقع: http://www.al-islam.com/content.aspx?pageid=1210&ContentID=753، تاريخ دخول الموقع: 28/11/2014م.
[7] تهاني الجبالي، مقال بعنوان: "قصة المادة الثانية من الدستور"، نشر في جريدة التحرير بتاريخ 05/11/2011م، موقع مصرس، رابط الموقع: http://www.masress.com/tahrirnews/69154 ، تاريخ دخول الموقع: 29/11/2014م.
[8] جاسر العودة، الفرق بين مبادئ الشريعة وأحكام الشريعة، موقع المختصر، رابط الموقع:
http://www.almokhtsar.com/node/31971 ، تاريخ دخول الموقع: 29/11/2013م.
[9] سامي جمال الدين، أصول القانون الإداري، بلا طبعة، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2011م، ص84،85.
[10] راجع، حكم المحكمة الدستورية المصرية في 15/5/1993م، قضية 7 لسنة 8 ق. دستورية، وفي 5/12/1998م قضية 28 لسنة 15 ق. دستورية.
[11] راجع، حكم المحكمة الدستورية المصرية في 6/1/1996م، قضية 5 لسنة 8 ق. دستورية.
[12] محمد سعيد العشماوي، الشريعة الإسلامية والقانون المصري، ط1، مكتبة مدبولي الصغير، القاهرة، 1996م، ص23.
[13] عبد الرازق أحمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام، الجزء الأول، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بلا تاريخ نشر، ص48-49
[14] تهاني الجبالي، مقال بعنوان: "قصة المادة الثانية من الدستور"، نشر في جريدة التحرير بتاريخ 05/11/2011م، موقع مصرس، رابط الموقع: http://www.masress.com/tahrirnews/69154.  تاريخ دخول الموقع: 29/11/2014م.

إرسال تعليق

 
Top